ذ.عبد الوافي الحراق
شتان بين ما قرآناه ودرسناه في فصول التحصيل الدراسي، وما سمعناه وشاهدناه في قاعات السينما من أفلام وبرامج وثائقية، وما حملته لنا كتب التاريخ والروايات والقصص، وما تناقل بالسمع عن أجدادنا وآباءنا عن الأوبئة والأمراض، التي حلت بمن سبقونا على وجه هذه البسيطة. وبين ما نعيشه اليوم ونراه بعين الواقع المعاش، في صراعنا مع فيروس كورونا. فليس من سمع كمن شهد.
كنا نتطلع بشغف لسماع هذه الأحداث والوقائع التاريخية عن الجائحات والأوبئة التي عصفت بالمجتمعات الإنسانية، ونلتقط كل حكاية وحدث وصورة، لمعاناة ضحايا هذه الأمراض والكوارث الصحية. فننسج لها ركحا في مسرح أذهاننا، لإعادة تشخيص الأحداث بسينوغرافيا الماضي، وإخراجها حسب مخيلاتنا ومرجعية ذاكرتنا بإحالات الحاضر. محاولين النبش في الزمن الغابر، لاستحضار الشعوب الموبوءة وتحيين مأساة الضحايا. علنا ننفذ إلى أحاسيسهم ومشاعرهم، وملامسة حجم آلامهم ومعاناتهم. وهم يئنون تحت وطأة الطاعون، أو الكوليرا، أو الانفلوانزا، أو الجدري، أو غيرها من الأوبئة التي حصدت أرواح البشرية بالملايين.
نجسد بداخلنا تلك المشاهد التاريخية، القاسية والمروعة التي مرت منها البشرية. لا سيما تلك الوقائع الموثقة بالصور والفيديو، إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية. التي نقلت لنا أحوال الناس وهم يفرون من مكان لآخر، هربا من جائحة الطاعون وأنفلونزا الطيور، التي انتزعت أكثر من 100 مليون من أرواح البشر، دون هوادة أو رحمة. وطرحت أجسادهم مضطجعة في الشوارع والأزقة والساحات، متراكمة كبساط من حصى الخريف. وترى الناس سكارى وما هم بسكرى، يتوسلون فيما بينهم ولا أحد يرحم الأخر، خوفا من انتقال العدوى.
كما صورت تلك الأحداث التاريخية والأفلام الوثائقية والسنيمائية، مستشفيات وملاعب للرياضية ومستودعات الخزائن، متكدسة عن آخرها بالمرضى. يفترشون الترى وأسرة بدون لحاف. بعضهم يلفظ آخر أنفاسه، وهو يحاول الإمساك بيده الممتدة لمن يتساقط حوله، عله يشاركه لحظة الاحتضار. وآخرون يصيحون ألما ووجعا من شدة الوباء، ويذرفون الدموع حسدا على من صعدت أرواحهم داعية ربها.
في ذات المشهد والصورة، كانت شعوب في أماكن أخرى، مصاحبة لهذه الأحداث الوبائية، تعيش حروبا ومعاركا بالسلاح والقنابل. أزهقت أرواح أبرياء لا ذنب لهم، سوى معاصرتهم لتلك الفترة الموبوءة، بغضب الطبيعة وشر البشر.
حيث كانت أوجه التشابه بين جثث ضحايا الأوبئة وقتلى الحروب، تتجلى في سحبها بالشاحنات العسكرية، ودفنها بالجرافات جماعة في الأجداث.
فما أشبه اليوم بهذا الأمس، وكأن التاريخ يعيد نفسه، ويعيد إلينا ويلاته وعواقبه. ها هو وباء كورونا يحل بالدول، ويفتك بأرواح شعوبها العظمى، التي كم تغنت بالمجد والقوة والعظمة. وفي مقدمتهم الصين وأمريكا وإيطاليا واسبانيا. و ها هي حروب تجري بالتوازي هنا وهناك، كما في اليمن وليبيا وسوريا وغيرها. وحصار يسري بالموازاة على بعض الدول، كفلسطين وإيران وقطر وفينزويلا ومثلها. ولا أحد اتعظ من ماضي أسلافه، أو استخلص من جائحته عبرا ودروسا، لتقاسم الرحمة مع أخيه الإنسان. وكأن هذا الإنسان “الأخ” ليس جزءا منا، أو كأن تاريخنا هذا أصلا لا يعنينا.
ها نحن اليوم مع كورونا، ندوق طعم الوباء الذي ضرب من سبقونا، نعيش ذات سيناريو الأحداث التاريخية، بصورة حية وواقعية. موتى تتساقط بالجملة في كل مكان، وجرافات تواري الجثث تحت الترى دون أكفان. مدن حصرت، وبيوت سجنت، وجيران هجرت، وأواصل بترت، وشوارع حجرت. وأعناق تشرئب من النوافذ بحثا عن قبس منافد، تختلس منه لمحة البصر، علها تخفف عسر الحظر.
صمت رهيب يجتاح العالم، لا حركة ولا سكون، خوفا من الإصابة بوحش خفي، لا تراه حتى العيون. فكيف له أن يصنع بالأمم العظمى هذا الصنيع. سبحان من يضع سره في أضعف خلقه.
أغلقت الحدود بحرا وجوا وبرا، وأقفلت أبواب الأسواق والبورصات. توقفت التجارة والصناعة والخدمات، وتعطلت المؤسسات الحكومية والمدارس والجامعات، وسكنت حركة النقل والتنقلات. لا صوت يعلو فوق صوت فيروس كورونا، إلا أنين المستشفيات والمرافق الطبية التي تستنجد همسا، توجسا، وتضرعا بكل لغات العالم للرحمة الربانية.
الأمم المتحدة تصارع هول الجائحة، فلأول مرة يتم التصويت بالإجماع ضدا هذا الوباء. لم يعقه حق الفيتو أو ديمقراطية الأغلبية والمعارضة. ولم تنفع معه سياسات، فرق تسود. تحللت نعرة العصبية الثقافية والإيديولوجية، وسقط قناع الهوية والقبلية. أغلقت المساجد الإسلامية، وخرست أجراس الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، وانبطحت أنصاب الأديان الوضعية. واستوت الحضارات الصحية والطبية، ولم تعد ثمة دولة عظمى وأخرى ضعيفة. وكأن العالم اصبح عشيرة واحدة مجردة. من أي دين أو مذهب أو عرق. الكل في واحد، ذكر أو أنثى، اسمه الإنسان. يحمل في جسمه فيروسا واحدا. ك..و..ر..و..نا.
فكيف تسلل هذا الوحش للإنسان وتفشى في جسده؟
يتبع … بقلم عبد الوافي حراق