خمس خواطر من وحي كورونا

بقلم : محمد السلاسي* 

– لم يجافي الحقيقة من قال بأن كورونا هي المرض الذي كشف أمراضنا، على الأقل وضعت عنجهية العالم أمام مرآة نفسه، فلا علومه المبتكرة ولا قرون استشعاره الكاذبة أسعفته في التغلب على عدو مجهري لا يزيد قطره عن 150 نانوميتر، ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فتأثير كورونا لم يقف عند آثاره الصحية بل تجاوزها ليشمل الاقتصاد والسياسة والحياة المجتمعية بصورة لم يعهدها جيل اليوم حتى في أشد كوابيسه رعبا.

ومن موقعي كباحث في السياسات العمومية أحاول أن أقارب المشهد بمنظار ما فات وما هو آت، وفيما يلي خلاصة تصوراتي للوضع العالمي والوطني على ضوء إفرازات هذا الواقع المستجد:

1- كورونا التي تحصد الأرواح وتنهش الأجساد، هي أيضا تنخر مفاصل الاقتصاد وتعيد تشكيل نظام عالمي جديد، باختصار: فهذا الوباء ينذر بتقويض الدعائم الأساسية للتوازنات الاقتصادية والسياسية، وإضعاف التكتل الأوروبي والتكامل الأوروأمريكي، أما الندوب التي ستخلفها هذه الجائحة ستغير بلا أدنى شك التصور القديم لمفهوم القوة القائم على الصناعة ووسائل الإنتاج، لصالح مفهوم جديد وهو اقتصاد المعرفة…

2- سنكتشف بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها، بأن الزمن لم يعد هو الزمن، وأن مياها كثيرة جرت تحت جسر عالمنا، دول عديدة ستحاول لملمة قواها من جديد، وأخرى ستقيس حجم فجيعتها وتحاول أن تتنفس الأمل مرة أخرى، وبعضها سيتغنى بانتصاره على الوباء دون أن يسائل نفسه حول قيمة نصر استوى فوق كل هذا الخراب.

لقد كشفت هذه الأوضاع زيف شعار: “التكافل العالمي” كما أسماه الأخ رشيد الطالبي العلمي، إذ أضحت “كل أمة تلعن أختها”، بل شاهدنا كيف أن دولا عديدة استولت على معدات طبية تخص دولا أخرى كانت هذه المعدات في الطريق إلى مستشفياتها في مشهد يعيد إلى الأذهان حملات القراصنة ضد السفن التجارية في العصور الوسطى، وهو ما أبان عن “مجاعة أخلاقية” تسكن روح العالم، فلا رجاء ولا عزاء للدول المتضررة، وكما قيل قديما: إذا كان خصمك القاضي فمن تقاضي؟ وفي رواية أخرى لمن تشكي حبة القمح إذا كان القاضي دجاجة، لقد سقط قناع الحضارة عن وجه عالمنا “المتحضر”، فما تزال تسري داخله هواجس الانسان البدائي وهو يصارع بنرجسيته مثلنا في معركة البقاء كي لا يموت.. هاجسه أن يجد عشاءه وألا يكون عشاء لغيره…

3- في الاجتماع الذي ترأسه جلالة الملك حفظه الله ونصره بالقصر الملكي بالبيضاء يوم 17 مارس المنصرم، رسالة مضمونة الوصول لمن يفهم الفرق بين ما يكتب على الرمال وما يدون على الصخر، فالاستدعاء اقتصر على قيادات الجيش والدرك والأمن الوطني، ووزير الداخلية ورئيس الحكومة بالإضافة إلى وزير الصحة باعتباره معنيا بالموضوع، لم يجتمع جلالته مع أحزابنا التي يعي تماما الوعي وكما عبر في عديد خطبه أنها لن تقدم ولن تؤخر.. أحزابنا التي اختلط صدقها بخبث السياسة شاغلها الأساس لا يلامس طموحات المواطنين، فمن غفل أفل كما يقال، ولا خير في فاعل سياسي يرفل في غفلته ولم يتخل عن الذاتية وبيع الأوهام والمتاجرة بمآسي الناس كما عبر عن ذلك الأخ التجمعي شفيق الودغيري.

4- جائحة كورونا كشفت عن حضور الدولة القوي بكافة أجهزتها، وانخراطها بلا هوادة ولا كلل في مواجهة هذا الوباء، وفي المقابل كشفت عن معدن المغاربة الأصيل في بث روح التكافل والتآزر والتضامن على عجل وبلا خجل فور أمر جلالته بإحداث صندوق خاص لمواجهة الوباء، وهنا أدرك تماما -وإن كنت لا أتمنى- أن من أخطر ما يتهدد المغرب، هو بعض ما يروجه الإعلام البديل، فجميعنا يتذكر بوضوح كيف دُفِع كثير منا إلى مقاطعة منتوجات وطنية لصالح أخرى أجنبية تأثرا بخطاب عاطفي أعجبهم زخرفه، لكن في لجة الأزمة لم تنفعنا هذه الشركات الأجنبية التي تجني أرباحا بأرقام فلكية، وفي المقابل شاهدنا كيف انبرت شركات وطنية لتمويل الصندوق وهي الشركات نفسها التي اكتوت بنار المقاطعة…

5- أمام انحسار مجال التبادلات التجارية وانكفاء كل دولة على نفسها، يبرز إلى العلن نقاش الوفرة والنذرة والكفاية والعجز، حينها لا مجال أمام الدولة غير تدبير المرحلة بما تمتلكه من إمكانيات ذاتية. حالة المغرب أراها متفردة بطابعها، فمخطط المغرب الأخضر وفر المنتوجات الفلاحية بكميات تزيد عن حاجة السوق المحلية نظرا لتوقف صادرات المغرب نحو الخارج، وتوقف أنشطة الاستيراد كشف النقاب عن مؤهلات وطنية هائلة ومفاجئة في التصنيع والإبداع (خياطة 5 مليون كمامة يوميا، وابتكار أجهزة تنفس محلية الصنع…)، فهل كنا ننتظر الأزمة لنظهر مواهبنا؟ سيكون جديرا بالحكومة العمل على افتتاح ورش وطني يخلق آليات اقتصادية ذات بعد اجتماعي للاستفادة من هذه الطاقات الوطنية المهدورة.

فمما لا شك فيه أن أزمة كورونا ستعمق جراح مجتمعية مرتبطة بقطاعات متضررة كالسياحة والتجارة، والحل يكمن في ضرورة فسح الطريق أمام عقليات جديدة ونخب جديدة وكفاءات جديدة تعمل بمنطق جديد يتماشى مع الواقع الجديد…
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) صدق الله العظيم

*أستاذ باحث في السياسات العمومية