المقاولة العربيّة وتحدّيات العَقلَنة

المهدي مستقيم*

لا شكّ أنّ النموّ الاقتصادي أمر حيويّ وحاسم في ارتقاء المجتمعات وتقدّمها. إنّه شرط لازم لأيّ تقدّم، إلّا أنّه وحده غير كاف. هناك عنصران ضروريان لتحقيق التنمية، الأول هو وجود رأس مال بشري يتمثّل في القدرات والطاقات الإنتاجية القائمة على الاقتدار المعرفي والمهني، والذي يرتكز أساساً على ثقافة الإنجاز. أما العنصر الثاني، فهو تحقيق تنمية مجتمعية، أي تنمية تحيلنا على خصائص المجتمع (بناه، ثقافته، حصانته، عافية مؤسّساته، علاقاته) . وهذا هو المشروع المجتمعي.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن أن تنتشر المعايير المؤسّساتية الحديثة وتسود في مجتمعات تهيمن عليها شبكات التحالفات، النسب، الجماعة، الرشوة، الزبائنيّة، غياب ثقافة تنظيمية؟

إنّ المشكل لا يكمن في القوانين كنصوص، وإنّما في قدرة الناس- حتّى لا أقول المواطنين-على الخضوع للمعايير المؤسّساتية التي تقوم بالمراقبة والتغيير.

من هنا يتمّ الانتقال من تحديث المؤسّسات إلى تحديث الوعي، حيث يصبح الشخص محرِّكاً لتاريخه، ولتحقيق ذلك، يجب الانتقال من دولة القانون إلى مجتمع القانون، من المجتمع المدني إلى مجتمع المواطنة، لأنّ المواطنة هي أساس التحديث المؤسّساتي.

بات الانخراط في الاقتصاد العالمي رهيناً بتحديث المقاولات والمؤسّسات والدفاع عن حقوق الفرد والمواطنة؛ ومن أجل تحقيق ذلك، لا بدّ من تجاوز ما يلي:

أ- الزبائنيّة

في تـعريفه للزبائنيّة بيّن “جان فرنسوا مدار” Jean François Medard (نقلاً عن محمد السربوتي) أنّها علاقة تبعية شخصية غير مبنيَّة على القرابة، تقوم على التبادل غير المتكافئ بين طرفين هما الزبائن والوجهاء أو الشفعاء؛ لكنّ تعريف “مدار” هذا لم يتضمّن طرفاً أساسياً وحلقة ضرورية في العلاقات الزبائنيّة التي تقوم بدور الوساطة بين الوجهاء والزبائن ألا وهي حلقة الوسطاء.

أطراف العلاقات الزبائنيّة

الوجهاء:

هُم مَن يترأسون قمّة الهرم الاجتماعي للنظام الزبوني، يصدرون الأوامر ويتحكّمون بالقرارات، ويمثّلون الجماعة الضاغطة، ثمّ يمتلكون القوّة، والنفوذ.

الزبائن:

يتمركزون في أسفل الهرم الاجتماعي للنظام الزبوني، وهُم من في حاجة إلى خدمات الزبائن، ومن بين صفاتهم السعي الحثيث، التقرّب من الوجهاء للحصول على الرضا مقابل الطاعة والولاء والهدايا والعطايا.

الوسطاء:

هي الفئة التي تلعب دور الوساطة بين الوجهاء والزبائن، وتنتمي إلى شرائح اجتماعية مختلفة، كما أنّها فئة مؤهّلة للعب دور الوساطة، أي أنّها فئة لها أوضاع ومواصفات تمكّنها من لعب دور الوساطة لفائدة الوجهاء وأحياناً بشكل تخصّصي ووفق حاجات الزبون.

يؤكّد “إتيان برينو” Bruno Étienne أنّ الزبائنيّة ميكانيزم تستعمله السلطة لدمج مجموعة هامشية أو محيطية والتي لها نسقها الثقافي الخاصّ الذي يوجّه سلوكاتها وأفعالها. لذا فالزبائنيّة تُستعمل من طرف النخبة السياسية التي تسيطر على الدولة والأمّة من أجل فرض نسقها الخاص من القيم، ولتدعيم سلطتها وسلطانها. فالزبائنيّة بحسب برينو أخذت شكل المحاباة السياسية وتتمّ وفق علاقة تبادلية بين مركز القرار أو السلطة وباقي المجتمع. كأن المركز يقدّم للمحيط شيئاً يحتاج إليه، مستحقّاً أو غير مستحقّ، مقابل حصوله من هذا المحيط وأفراده على قدرٍ من الطاعة والامتثال.

وبحسب ما جاء به برينو، فإنّ الخضوع والامتثال تحتاج لهما السلطة المركزية من أجل غرس قيم تؤمن بها هي دون باقي أفراد المجتمع.

فالمؤسّسة السياسية الحديثة عليها الاستفادة من قيم المجتمع المحلّي بغية تحقيق الاندماج السياسي على حساب البنيات الاجتماعية القديمة. والزبائنيّة كما أشار إلى ذلك إتيان برينو تنتقل من وسيلة للاستمرار والمحافظة على قيم المجتمع المحلّي إلى وسيلة سياسية من أجل القضاء على هذه القيم واستبدالها بقيم أخرى، وذلك عن طريق الوسطاء الذين ينتمون إلى المحيط ويحومون حول المركز أي القريبين من ثقافة المركز .

غدت العلاقات الزبائنيّة في الوطن العربي تنتشر بشكل كبير بل تكاد تغطّي كلّ المجتمع؛ لقد انوجدت في الماضي، وكانت تتمثّل في علاقة القبائل بالشيوخ. حيث صارت مجموعة من القبائل زبونة لدى أسرٍ عريقة، تقدّم لها موارد مادية من أجل الحصول على مقابل في المستقبل، وتمثّلت الزبائنيّة أيضاً في علاقة الحراطين بالأحرار، والخماسة والرباعة بملّاك الأراضي، الشرفاء بالعوام، خدّام الزوايا بالأشراف، الأفراد بموظّفي المصالح والمكاتب، عائلات التجّار بالسلطة الحاكمة… وتنتشر اليوم بشكل كبير في كلّ المؤسسات “الحديثة” من أحزاب، برلمانات، إدارات، مقاولات… فما هي أهمّ أسباب انتشار الزبائنيّة؟

يمكن تلخيص أهمّ أسباب انتشار الزبائنيّة في ما يلي:

  •   انتشار العلاقات الزبائنيّة رهين باستمرار العواطف الأوّلية، وعواطف الحاجة، وإعادة تنشيط البنيات الانقسامية حيث تقوم هذه العواطف بتحفيز العداوة بين القبائل وبين المدن والبوادي، بين ما هو مدني وما هو عسكري ( نقلاً عن الأستاذ محمد السربوتي).
  •  منطق النظام الباتريمونيالي يتطلّب سيادة العلاقات الزبائنيّة وهيمنتها على المعايير والضوابط المؤسّساتية.
  •  تلاشي الهياكل الجماعية والتقليدية التي كانت تقوم في السابق بتنظيم التعاون والتعبئة والمقاومة على الصعيد الجماعي، واندثارها.
  •  تدنّي مستوى تنظيم حقوق المواطنة وتعميقها، حيث إنّ الحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية غير مضمونة للمواطن، على الرغم من كلّ الدساتير أو القوانين التي تنصّ عليها. فهي غير مضمونة، إما بالنسبة إلى الكلّ أو بالنسبة إلى الحدود بين مجال المصلحة العامة والمصلحة الخاصة.
  •  شدّة الاختلال في التوازنات بين الطبقات العليا و الطبقات الدنيا، وهيمنة عناصر المنظومة الزبائنيّة على ثقافة الاستقلال الذاتي (محمد جسوس، طروحات حول المسألة الاجتماعية، 2003).

النتائج المترتّبة عن العلاقات الزبائنيّة:

  •  انتشار الزبائنيّة الإلزامية، أي أنّ مجموعة من المواطنين يُفرَض عليهم التحوّل إلى زبائن على الرغم من عدم اقتناعهم بالزبائنيّة. حيث يكون المرء محاصراً ومفروضاً عليه ممارسة الزبائنيّة، وتكون الزبائنيّة من دون شروط عقائدية.
  •  ارتفاع ظاهرة الوجاهة، أو الوساطة الإلزامية وتناميها، حيث هناك فئات يُفرَض عليها عن طريق الضغط الاجتماعي ومنطق الضرورة أن تتحوّل إلى وجهاء ووسطاء، على الرغم من عدم اقتناعها بذلك، ويتمّ تبرير ذلك بضرورة الإغاثة ومساعدة الجيران أو العائلة تجنّباً للكوارث.
  •  توسّع رقعة المعاملات الزبائنيّة ونطاقها، بحيث تصبح دائرة هذه المعاملات تكتسح أكثر ما يمكن من دواليب الحياة الاجتماعية ومن المرافق والقطاعات والمجالات، بما فيها مجالات الثقافة والمعرفة والعلاقات الأسرية والصداقة…،هذه الوضعية يمكن تسميتها- بحسب محمد جسوس- بمسلسل التزبين.

ب- غياب الثقافة التنظيميّة

تُعتبر الثقافة التنظيميّة سيرورة وعملية متواصلة، حيث تصبح المنظّمة أو المقاولة مكاناً لإنتاج هذه الثقافة كلّما قامت بإعادة إنتاج النسق الاجتماعي المشكَّل لها بواسطة الفعل الاجتماعي.

إنّ غياب ثقافة من هذا النوع يُعدّ حاجزاً أمام الانتقال إلى مقاولة حديثة، وهذا ما أشار إليه ميشيل كروزييه في كتابات عديدة، فالثقافة التنظيمية تكمن في قدرة المنظّمة على إنتاج مجموعة بشرية، بما تحمله من علاقات تبعية وقيادة وعلاقات غير متساوية، تكون مقبولة من طرف كلّ أعضائها، بحيث يستطيعون تحقيق الهدف المشترك من جهة، وإعادة إنتاج هذه المجموعة من جهة ثانية. والثقافة بهذا المعنى، تسمح للفريق أو المجموعة بأن تتشكّل أو تتكوّن بصفتها كذلك. وذلك بواسطة إنتاج أدوات وطرق الدمج والانتماء لهذه المجموعة أولاً، وإنتاج الحلول التي تمكّنهم من تعبئَة قدراتهم ومعارفهم وتوحيد مصالحهم، حتى المتضاربة منها، من أجل استمرار هذه المجموعة ثانياً.

فالثقافة التنظيمية تعني إيجاد العقلَنة المشتركة، وتعني كذلك مجمل المعاني والوسائل التي أوجدتها المجموعة بغية معالجة مشكلاتها ومواجهة قضاياها وتكون مقبولة من طرف أغلبية أعضاء المنظّمة. فهذا المفهوم للثقافة التنظيمية ينطلق من تحديد كيفية تكوين هذه الثقافة وتشكيلها، وليس مجرّد تقديم وصف لها. وبهذا تكون الثقافة التنظيمية- بحسب فيليب بيرنو Philippe Bernoux سيرورة وعملية متواصلة تعبّر عن الكيفية التي تنتج بها هذه المجموعة نفسها، أي اندماج أعضائها فيها، وعن قدراتها على الفعل والعمل على تحقيق أهدافها ومشروعاتها.

*باحث من المغرب

عن مؤسسة الفكر العربي