كتبها: الدكتور إسماعيل البويحياوي
يردد العديد من مدرسي اللغات والاباء والتلاميذ، أن تدريس اللغة العربية بات تقليديا جدا. ودليلهم على ذلك أنه يرتكز أساسا على الوثيقة الكتابية، والنصوص بصفة خاصة، ويتم إهمال أنماط أخرى من أنواع الوثائق التي تعتمد في تدريس اللُّغات الحيَّة كاللغتين الإنجليزية والفرنسية على سبيل المثال. ورغم أن هذه الملاحظة وجيهة وصائبة، فتدريس اللغة العربيّة يعرف سعيا حثيثا ليطور نفسه، ويعتمد أنواعا أخرى من الوثائق غير النص، بل نجده يستفيد من المنجزات البيداغوجية ومن تجارب ديداكتيكية مستجدة. ويمكن هنا أن نذكر مكون الصورة، خاصة ونحن في عصر يعرف بعصر الصورة، والتواصل، والعولمة، والصورة كما يقال تعدل عشرات الكلمات. فكيف توظف الصورة في تدريس اللغة العربية بجميع أسلاكها الابتدائي والإعدادي والثانوي؟ وما درجة حضور الصُّورة في مقرراتنا لتدريس لغة الضاد؟ وماذا يمكن أن نقترح لتطوير استعمال تدريس الصورة في ديداكتيك اللغة العربية؟
ترافق الصورة التلميذ المغربي من التعليم لابتدائي إلى التعليم الثانوي، ومن مستوى التحضيري حتى مستوى البكالوريا. وجذير بالذكر أن الكتاب المدرسي المغربي قد مر من مراحل متعددة في تعامله مع الصورة: مرحلة أولى لم تكن تستعمل فيها الصورة، ومرحلة ثانية تميزت باستعمال، الصورة باللونين الأبيض والأسود، ومرحلة ثالثة استعملت فيها الصورة الملونة، ثم مرحلة رابعة وأخيرة، وهي مرحلة الصورة الرقميَّة. كما تعددت أنواع الصورة، وتعددت وظائفها [1]. ولن نستفيض في المراحل والأنواع والوظائف لأنها لا تشكل صلب موضوعنا.
يمكننا، بادئ ذي بدء، الحديث عن نوعين من استعمال الصورة في ديداكتيك اللغة العربية: استعمالها كدعامة تربوية، أو كوسيلة إيضاح تساعد على التبليغ والإفهام والتوضيح وتفسير ما هو غامض في النص.[2] ويتم التعامل معها في مظهرها التشخيصي الإحالي على العالم الخارجي، أو الإحالة على الشيء الذي تصوره وتمثله. فهي صورة ذهنية تعوض المرجع و/ أو المدلول، وتيسِّر على التلميذ عملية الإدراك الحسي. جاء في دليل الأستاذ والأستاذة للسنة الثالثة من التعليم الابتدائي” عندما يتلقى المتعلم(ة) نصا، فإنه يلتقط بصريا علامات ومشيرات من خلال ما يحيط بالنص القرائي، وتشكل الرسوم والصور في هذه الحال فرصة لتوقع فرضيات القراءة اعتمادا على ما يلاحظه من صور”[3]. وشخصيا مازالت الصور الزاهية الجذابة للقَصَّاب، والفلاح، والحقل، والمحراث، والدجاجة، والثور، التي استعملها معلمي في مادتي الأشياء والمحادثة، عالقة بذهني إلى اليوم. وكنت كلما سافرت إلى البادية أبحث عن شبيه لها فلا أجده، فأقول في نفسي ذلك عالم المدرسة المثالي فقط. وتأكد لي أن باديتي لا تصلح موضوعا للدراسة المقدسة، والعجيبة الغريبة. وبصفة عامة مازلت صور التلاوة والقراءة التي رافقت النصوص والحكايات راسخة في أذهان جيلي كالصور المرافقة لنصوص يوسف يمثل أباه، وسروال علي، وزوزو يصطاد السمك، ومحجوبة الكسلانة، وعنزة السيد سوغان وغيرها.
وتحضر الصورة في كتاب اللغة العربية في الإعدادي مرة كَحِلية، أو كديكور فقط. توشي غلاف الكتاب المدرسي، وتضفي عليه زينة وجمالية. وتحضر مرات عديدة كمرساة تحاور محتوى النص، وتحيل إلى مضمونه، أو إلى جزء منه، أو تكمل رسالته أو تتصادى معها بشكل من الأشكال حسب تقدير واضعي الكتاب المدرسي.[4]
لكن للصورة شكل حضوري آخر يمكن اعتباره جديدا نسبيا في ديداكتيك اللغة العربية. وهو حضور الصورة كخطاب مستقل وقائم بذاته، يحلل ويدرس لذاته مثل خطابات أخرى إشهارية، أو صحفية، أو سياسية، أو غيرها. وهنا ترافق الصورة الخطاب الإشهاري الذي يشكل محور درس النصوص، لكنها تشكل محورا لدرس التعبير والإنشاء.
وبالعودة إلى كتاب التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة اللغة العربية بسلك التعليم الثانوي نجد كلمة مقتضبة عن مكون مادة التعبير والانشاء تحدد الأهداف والمقاربة. فالأهداف ثلاثة، وهي كما يلي:
” – تنمية مكتسبات المتعلم التعبيرية والانشائية التي توفرت لديه في الجذع المشترك.
- ربط المهارات المقررة بمكوني النصوص وعلوم اللغة.
- تأكيد طابع التكامل بين أنشطة الاكتساب والتطبيق والإنتاج.”
أما خطوات الدرس أو إجراءاته المنهجية، فقد بينت التوجيهات أن درس التعبير والإنشاء ينجز” عبر الأنشطة التعليمية التعلمية الآتية:
- أنشطة الاكتساب
- أنشطة التطبيق والإنتاج
- أنشطة التصحيح والتقويم”[5]
لقد جاء تحديد الأهداف عاما وفضفاضا، ويحتاج إلى تدقيق. ولربما ترك الأمر للمدرس كفاعل تربوي منفذ لكي يكيف درس التعبير والإنشاء وفق أهداف المقرر، والأهداف الإجرائية للدرس مع مراعاة دقيقة للتكامل بين وحدات مادة اللغة العربية. ولذا ينتظر منه أن يخطط التعلمات، ويدبرها، ويقومها.
لكن كيف حول واضعوا الكتاب المدرسي هذه التوجيهات إلى درس فعلي يقوم بتنزيل هذه التوجيهات، ويلتزم بالإجراءات المنهجية، ويقدم النموذج الحي والدينامي للتلميذ والمدرس على السواء[6]. إن العودة إلى الكتب المدرسية تكشف أنها كلها تجتهد في تحقيق الترابط بين مكون النصوص الذي يعالج الخطاب الإشهاري، ومكون التعبير والإنشاء الذي هو تحليل الصورة. علاوة على التقارب الواضح بين هذين المكونين ومكون علوم اللغة الخاص بظاهرة لغوية نحوية، وهي الحال. رغم أن هذا النشاط الديداكتيكي يتطلب أدوات لغوية وعبارات تعبيرية أخرى، ولنقل إنه يتطلب أفعالا كلامية تؤدي وظائف الوصف، والتحليل.
يعالج الكتاب المدرسي خطاب الصورة الأيقوني، ويحلله عبر مراحل ثلاث:
- مرحلة الاكتساب
- مرحلة التطبيق
- مرحلة الإنتاج
فإذا أخذنا أحد هذه الكتب المدرسية[7] فإننا سنجده يعالج مرحلة الاكتساب من خلال تمهيد يتوجه بالخطاب إلى التلميذ. يعرفه بالصورة، ويتعاقد معه على الهدف من الدرس بتدريبه على تقنيات، ومهارات تحليل صورة، عن طريق إنجاز الأنشطة المطلوبة منه، والتي يفترض فيها أن تحقق هذه الأهداف المصرح بها. ومرحلة الاكتساب هنا تجري عبر ثلاث محطات:
- تَأَمُّل الصورة: صورة إشهارية لملصق، جاءت مرفقة بستة أسئلة تمحورت حول المكونين الأيقوني البصري واللغوي، وحول مكوناتها، وموضوعها، وإطارها، ووحداتها اللغوية، والمخاطب بها، وحول دلالتها وإيحاءاتها.
- تَعَرُّف تقنيات ومكونات تحليل صورة: وفيها تمت مقاربة المكونين سالفي الذكر: المكون الأيقوني، والمكون اللغوي، ثم مظاهر وتجليات التعالق بينهما بتفصيل.
- تَذَكُّر إجراءات التدريب على تحليل صورة، والذي يمكن اعتباره خلاصة لدرس تحليل الصورة.
وفي حصة التطبيق نجد ثلاث مراحل:
- تمهيد يتم خلاله التذكير بما ورد في حصة الاكتساب، وذلك بالتوقف عند وسائل التعبير التي تعتمدها الصورة، والتوقف عند منظوري الوصف والتحليل الكاشفين لرسالتها، وسياقها، وأساليبها الإقناعية. ثم يطلب من التلميذ القيام بقراءة الصورة، وتحليلها عبر الاستعانة بمجموعة من الأسئلة.
- وصف الصورة: نوعها، موضوعها، مكوناتها الأيقونية واللغوية.
- تحليل الصورة: المرسل، المرسل إليه المستهدف، التعالقات بين أجزاء الصورة، العنصر المهيمن، ثم أخيرا مقصدية الصورة.
ويظهر جليا أن هذه المقاربة شاملة، لكنها أقرب إلى تحليل النصوص منها إلى التعبير والإنشاء. ورغم أننا نؤمن بالتكامل والتداخل بين مواد اللغة العربية إلا أن الأنشطة والأسئلة، وإن كانت تلامس جانبي الوصف والتحليل، فهي تحولت إلى درس للنصوص. والأكثر من ذلك أنها لا تقوم على استراتيجية واضحة تلامس أهدافا لغوية، ومنهجية، واستراتيجية من خلال أنشطة تتعلق بالجانبين الشفوي والكتابي.
ونحن نقترح الانفتاح على ما حققه تحليل الصورة الثابتة والمتحركة، وحتى الصورة المفعَّلة. وندعي أن هذا الأمر ممكن لأن التلاميذ يستعملون آخر مستجدات العالم الرقمي وتكنولوجيا المعلوميات والتواصل، بل هم أكثر تقدما في مجال التكنولوجيا من مدرسيهم، وهو ما نراه ونعايشه يوميا في درس اللغة العربية. إذ ما إن يجلب الأستاذ الحاسوب حتى يسرعوا إلى المساعدة والقيام بتشغيله بسرعة فائقة، علاوة على التجاوب والمشاركة. والخوف كل الخوف أن يؤدي هذا الأمر إلى نوع من التفاوت، ولنقل الطلاق بين المدرسة والتلميذ بصفة عامة، والتلميذ واللغة العربية بصفة خاصة.
كما نرى أن علينا الانتقال من توظيف الصورة كتشخيص خالص للعالم الخارجي أو كوثيقة مرآة إلى الصورة كخطاب له لغته وقوانين دلالته، ويتطلب تحليله عُدَّةً، وقدرات، ومهارات[8] يتم الإعداد والتخطيط لها سلفا. وهنا ننظر للصورة كمعين على تحقيق المهام، وكمحفز لفظي، وكمؤشر على التَّعالق بين أشكال الخطاب. ولابد أن نستعين بالقراءة البصرية الجمالية للصورة ومكوناتها. مما يساعد على تربية النظر لتشكل الصورة مبدأ ديناميا يفتح لنا باب ولوج العالم والواقع الذي تعيد إنتاجه من خلال لغة يراها البعض صامتة لأنها لا تخضع للتمفصل المزدوج كاللغة الطبيعية، لكنها تخاطب العين. ونحن نركز هنا على التفاعل بين الصورة والنص، أو التفاعل بين الأيقوني واللغوي.
وهنا تقوم الصورة بوظيفة محفز للتلميذ ليوظف قدراته ومهاراته، ومعارفه وثقافته بصفة عامة. والمقصود هنا عدم تغييب البعد الثقافي للصورة، ولقدرات المتعلم على الفهم الشخصي والتحليل والتأويل، واتخاذ موقف من محتوى الصورة والقيم الحاملة لها. ويمكن توظيف الصورة السينمائية نظرا لحركيتها، وجاذبيتها من خلال بطاقات واصفة تحقق الهدف من المقرر، أو الدرس كالوصف والتحليل والمقارنة واكتساب اللغة والإنتاج في مراعاة تامة للغة السينماتوغرافية. هكذا نحقق متعة الصورة السينمائية، ومتعة ولذَّة وفرحة التعلم والتعبير عن المواقف الذاتية، وإحساس الشعور بالنجاح في أداء المهمة المنوطة به.
وأود هنا أن أشير إلى أهمية اعتماد الصورة المفعلة في تعليم اللغة، وفي تحقيق التعلم الذاتي باكتساب قدرات ومهارات وخبرات تقنية صرفة تتعلق بالتعامل مع الحاسوب والإنترنيت(تعلم إتقان استعمال التطبيقات، والمنصات، والبرمجيات الحاسوبيَّة، والتحكم فيها ، وتطويعها[9])، وتعلم مهارات وقدرات الفهم والتحليل والتركيب والاستيعاب، ثم تعلم واكتساب المعارف والمعلومات بشكل شخصي وذاتي، والذي يكون تتويجا لهذا النشاط عبر الصورة الرقمية المتحركة والمفعلة. فخلال دراستنا لبعض آثار الأدب الرقمي ذات الغاية التربوية البيداغوجية التي جمعت بين السرد الأدبي والتفاعل، تبين لنا دور الصورة المفعلة والفيديو واللعب في اكتساب هذه المهارات والقدرات، وفي محاربة الأمية الرقمية. ففي وضعية يطلب فيها من التلميذ، الذي يصبح قارئا مبحرا، أن يقوم مثلا بنشر نص في موسوعة ويكيبيدا كمهارة كتابية، بغاية تعلم طُرُقَ وتقنيات النشر والإنتاج على الشبكة العنكبوتية وإتقانها، والتمكن منها ليحقق مهمة المساهمة في المعرفة الكونية. يوضع بين يديه مقال يحمل عنوان” تفاح الهيسبيرديات الذهبي”[10]، المنشور على صفحات ويكيبيديا، والمتضمن للكثير من الأخطاء التي عليه أن يقوم كقارئ مبحر أن يقوم بصحيحها. وبذلك يتعلم مراحل هذا التصحيح بالقيام بمجموعة من الحركات والأفعال. ينقر العنوان المنشط ” تفاح الهيسبيرديات الذهبي” الذي ينقله إلى صفحة تصحيح الأخطاء حيث عليه نقر مربع صغير، يحتوي كلمة تغيير المنشطة، ليتم نقله إلى المقال على ويكيبيديا، ويقوم بتصحيح المعلومات والأخطاء الستة، ثم ينقر مستطيل التصديق والموافقة على الصلاحية (valider)، ويعود إلى الصفحة الأولى لينقر مستطيل التحقق (Verifier) ثم ينقر مستطيل متابعة (Continuer)، ليتعلم هذه التقنيات، ويتعلم ضبط المعرفة العلمية والنَّهْل من معينها الصحيح لتصبح معرفة علمية مجازة ومدققة [11].
وفي نهاية مقالنا نؤكد على أن استعمال الصورة في ديداكتيك اللغة العربية عرف تطورا ملموسا يعكس تفاعل المنظومة التربوية مع مستجدات ديداكتيك اللغات. وهو عمل جبار ومحمود، لكن مجال الصورة يظل خصبا جدا، ومفتوحا على الإضافة والتجديد، ومواكبة تطور وتقدم الوسائط وتقنيات المعلوميات والتواصل، والتحول الرقمي بصفة عامة.
الدكتور إسماعيل البويحياوي الإدريسي.
لأخذ فكرة مفصلة يمكن الرجوع للعديد من الدراسات والمقالات فث المجال، ومنها مقال” الصورة التربوية في الكتاب المدرسي المغربي، جميل [1]
[3] المفيد في اللغة العربية، السنة الثالثة من التعليم الثانوي، دليل الأستاذ والأستاذة، مصطفى عسو، عبد المالك ابن زاكور، أحمد الفلالي، محمد وراش، 2020،2019.
https://moutamadris.ma-3/ دليل الأستاذ- المفيد- اللغة- العربية
[4] للتوسع: تنظر الفصل الأول من القسم الثاني من أطروحتنا لنيل الدكتوراه تحت عنوان” السرد الأدبي التفاعلي: مقاربة تداولية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية’ الرباط، 2019.
.[5] التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة اللغة العربية بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، 2007. وينظر أيضا كتاب” ديداكتيك اللغة العربية والمقاربة بالكفايات بالسلك الثاني الثانوي التأهيلي: النظرية والتطبيق، عبد العزيز خلوفة، ود. المختار السعيدي،2015.
[6] نقول هذا لأن جل واضعي ومؤلفي المقررات إما مفتشون أو خبراء أو اساتذة لهم معرفة جيدة بالتوجيهات، ولهم أيضا خبرة كبيرة في مجال التدريس
[7] منار اللغة العربية، السنة الأولى من سلك البكالوريا، محمد حمود، د. محمد جرير، مولاي عمر البداوي، عبد الغاني عارف، محمد مكسي، محمد البرهمي، محمد أولحاج، فاطمة حسيني، TOP EDITIONط، 2020.
حمداوي، مجلة علوم التربية، العدد،58، ص 44،53، يناير 2014.
[8] SAGES COMME DES IMAGES. QUELLE PLACE POUR L’IMAGE EN CLASSE DE FLE ?
https://www.institutfrancais.ru/fr/russie/actualites/sages-images-quelle-place-limage-en-classe-fle
مقال يعرض تجارب تربوية للتدريس بالصورة كالألبوم، والصورة السينمائية في الفلم الوثائقي من منظور الإطار المرجعي الأوربي لتدريس اللغات.
[9] Manipulation.
[10] قصة من قصص المغامرات الأسطورية الإثني عشر لهرقل اليوناني.
[11] تناولنا هذا الجانب في أطروحتنا لنيل الدكتوراه تحت عنوان” السرد الأدبي التفاعلي: مقاربة تداولية، كلية الآداب والعلوم الإنسانين’ الرباط، 2019.